ads
رئيس التحرير
ads

” التعليم وثقافة الوعي بالصحة النفسية ” (24) بقلم🖊 الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرقاوي رئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم بقطاع المعاهد الأزهرية.

الخميس 22-08-2024 17:55

كتب

الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرقاوي رئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم بقطاع المعاهد الأزهرية يكتب:
إن الحفاظ على الصحة النفسية مطلب شرعي، ومنهج نبوي، قال صلى الله عليه وسلم:(…فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية)،أخرجه أحمد في مسنده، ولكن مع تسارع وتيرة التطور التكنولوجي، نجد أنفسنا في عالم مليء بالضغوط والتحديات النفسية التي تؤثر علينا يوميًا،
ورغم أن العقل هو المحرك الأساس لكل جوانب حياتنا، إلا أن الحديث عن الصحة النفسية لا يزال يواجه كثيرًا من التحفظات ومحدودية الاهتمام بها، فكيف يمكن أن نصنع بيئة تعليمية تدعم الصحة النفسية وتنشر الوعي بأهميتها؟
هذا السؤال يحمل في طياته أهمية بالغة لمستقبل الأجيال القادمة، حيث تصبح ثقافة الصحة النفسية جزءًا أساسيًا من بناء مجتمع واعٍ ومزدهر.
إن هذا النوع من الصحة يرتبط بالإنسان في خاصّة نفسه، ويتعلق بالناحية المعنوية، قال الله تعالى في شأن النفس البشرية :
“( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)سورة الشمس من الآية 7:10، وقال أيضا: ( فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) سورة النجم الآية:32 ، وقال أيضا: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) سورة النساء الآية،49.
إن الصحة النفسية ليست مجرد رفاهية؛ بل هي جزء أساسي من حياتنا اليومية، في عصر تزداد فيه معدلات القلق والاكتئاب، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في الطريقة التي نتعامل بها مع صحتنا النفسية. فالصحة النفسية تمكّن صاحبها من مواجهة ضغوط حياته وأنماط معيشته، وتحقيق آماله وتحمل آلامه، وتحصيل علمه وتعلمه بشكل طبيعي وبسيط، دون إفراط أو تفريط، فضلًا عن مساهمته في خدمة مجتمعه ووطنه على نحو يحقق التكامل الإنساني والبناء المعرفي، ويسهم في إنماء الجانب الروحي والوجداني، ويعظم قيمة الجانب الحضاري والعمراني، وذلك في ضوء احترام الحق في الخصوصية وتنمية حقوق الإنسان المعتبرة في دنيا الناس.
والصحة النفسية لا تقتصر على انعدام الاضطرابات النفسية، بل هي حلقات متعاقبة تختلف من إنسان لآخر، بحسبان النشأة والبيئة والظروف الحياتية المحيطة، وأما عوارض الصحة النفسية وعِلاتها فهي تشمل الاضطرابات النفسية المختلفة وحالات الإعاقة النفسية الاجتماعية، فضلاً عن الحالات النفسية الأخرى المرتبطة بالضيق تارة وبضعف الأداء أو خطر الإيذاء النفسي تارة أخرى. ومن ثم فقد يعاني الأشخاص المصابون باعتلالات الصحة النفسية من تدني مستويات الراحة النفسية في حالات مخصوصة.
لذا؛
نجد الإسلام يضع ميزانا للصفاء الإنساني، والتقدم الحضاري، ونقاء النفس البشرية، واستبقاء فطرتها السليمة السوية، حيث نجد ذلك في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-:” المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم” (أخرجه البخاري، كتاب الإيمان)، وعليه، فينبغي أن يتمتع أفراد المجتمع بصحة نفسية عالية.
هذا، وقد أكدت الشريعة الغراء في مقاصدها العليا ضرورة الحفاظ على مقاصد خمسة، وهي: حفظ الدِّين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وأرى أن الصحة النفسية تدور مع هذه المقاصد الخمسة، بحيث إذا هي صَفت صَفت، وإذا هي اضطربت اضطربت، ومن ثم فإن انعدام الصحة النفسية أو نقصانها كليا أو جزئيًا يؤدي إلى المساس بالإنسان والبنيان، وبقدر هذا الانعدام أو النقصان يكون الأثر في المساس بالحضارة والعمران، ومن ثم فإن نقصان الصحة النفسية في الأنفس البشرية ينال من صواب العقول السليمة والحكيمة، ويضعف قوتها بتعكير صفوها وتقليل نقائها وصفائها، فينقلها من دائرة الرشد والحكمة إلى دائرة التدمير والعتمة، ومن دائرة الفكر والرقي إلى دائرة العدوان والتعدي، ومن دائرة الصلاح والوئام إلى دائرة التشفي والانتقام، فضلًا عن ضياع الحقوق المعتبرة والمساس بالحريات المصانة، ولا شك أن أثر أعطاب الصحة النفسية يؤدي إلى نقض مقاصد الشريعة بقدر هذا العطب وبمقدار هذا الخلل، لذا فقد قيَّض الله تعالى للصحة النفسية أطباء وعلماء للتأكيد على وجوب صونها، واستبقاء سلامتها، واستدامة صفائها.
ولهذا أقول: إن التمسك بتعاليم الدين والخُلق القويم يعد نوع حماية للصحة النفسية في المجتمع بأسره؛ لما لذلك من إسهام فعَّال في حفظ قيم المجتمع الرئيسة وصون آدابه العامة، فالتمسك بالدِّين والتزام أحكامه تصرفًا وسلوكًا يزيد من تحقيق الصحة النفسية، ومن ثم يمنع الناس من اقتراف الأفعال المنكرة، ويحفظ عليهم تعاونهم الفعّال وتناصحهم الجاد وترابطهم المعتاد، فتبقى حياتهم هنيئة مرية وآمنة مطمئنة، فالنفس البشرية هبة من الله – عز وجل- كرمها بالحفظ والصون، ومدها بأسباب التزكية والنماء، فضلًا عن ضمانه لرزقها الدائم من مختلف الطيبات، قال الله تعالى:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }[الإسراء:70]، لذا فقد وجب صون النفس البشرية وحفظها من العطب والعبث، وكفِها عن الغي والتعصب، ومنعها من التعدي والعنف والتنمر، على نحو تؤدي معه مهمتها الرئيسة في الحياة على وجهها الأكمل ونظامها الأشمل؛ ضمانًا لعدم خرق النظام الإنساني العام، قال تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا…}[المائدة:32]، وقطعَا تختلف نفوس البشر ونزاهتهم، وتتباين أهواؤهم ورغباتهم، وتختلف منافعهم، وتتناقض مصالحهم، ولا يستطيع إنسان أن يعيش منعزلًا عن غيره، فاستلزم ذلك تنوع المنافع، وتعارض المصالح، فنتج عن ذلك اختلاف حتمي في طبائع البشر وتفاوت في درجات التمتع بالصحة النفيسة.
لذا، فقد وجب أن يكون هناك يقظة عقلية تامة، ورشد فكري عالٍ، يصون الصحة النفسية، ويرتقى بالنفس البشرية، فيحفظ عليها فطرتها السليمة المعتبرة في دنيا الناس، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية، سيما الأزهر الشريف والمؤسسات الصحية؛ لإعادة التذكير والتأكيد على أهمية الصحة النفسية في الأوساط الإنسانية كافة، بحسبان ذلك من قبيل أداء الأمانات إلى أهلها ومستحقيها، ويحصل هذا الأداء بإبقاء النفس البشرية على فطرتها السليمة، ومن هنا فقد وجب أن تتسع في المجتمع دائرة الثقافة المعنية بنشر الوعي بالصحة النفسية؛ دفعًا لأثقالها إذا عطبت، واستبقاءً لنقائها إذا اضطربت، واستدامة لفطرتها السوية إذا تمايلت، وهذا نوع عدل حقيق لأن ينشر، وجديد تأمل جدير أن ينظر، وذلك بيانًا لجمال ديننا الحنيف في أعمق جواهره وأسمى مقاصده، ونشرًا لمنهاج نبينا– صلى الله عليه وسلم- في أظهر مكارمه وأجمل محاسنه… ألا فتأملوا..

 

” التعليم وثقافة الوعي بالصحة النفسية ” (24)
بقلم🖊
الأستاذ الدكتور/ أحمد الشرقاوي
رئيس الإدارة المركزية لشؤون التعليم
بقطاع المعاهد الأزهرية.
ads

اضف تعليق