ads
رئيس التحرير
ads

مَدْرَسَةُ الحَجِّ لِلْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِم..للأستاذالدكتور/عادل عبدالله هندي أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية المساعد بجامعة الأزهر

السبت 22-06-2024 22:36

كتب

يتنقل المسلمون في حياتهم بين مدرسة وأخرى، وفصول تلك المدارس كلها دروس وفوائد، وقد انتقل المسلمون من مدرسة رمضان إلى مدرسة الحج، وبعد قليل ينتقل المسلمون إلى مدرسة الهجرة، وهكذا هي حياة المسلمين: ارتحالُ تربية وتعليم..

وها قد مضـى موسم الحج ولا تزال مدرسته قائمة للتربية والتعليم، وإنه لمن دواعي السـرور والشـرف أن نتكلم عن مدرسة الفريضة الكبرى في الإسلام “الحج”، وماذا يتعلّم المسلمون من تلك المدرسة؟ فهلمُّوا يا طلاب الخير والرشاد إلى خيري الدنيا والآخرة، واسمعوا إلى قول المولى الجليل، وهو يتحدّث عن بعض دروس هذه المدرسة، فيقول:

«‌وَأَذِّنْ ‌فِي ‌النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ  * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُـذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ * ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» [سورة الحَجّ، 27: 32]. ومن دروس تلك المدرسة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية تفصيلًا، ما يأتي:

  1. الإخلاص والتجرّد لله تعالى، فالحج عبادة يشعّ الإخلاص من كافة جوانبها، وتنطق مراسمها بإفراد الخالق بالتوجّه، ولا يغيب عن كل مسلم أمر الله تعالى للخليل إبراهيم: «وَإِذْ بَوَّأْنـا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْـرِكْ بِي شَيْئاً» وشعار الحجاج “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك” وقد كان صلى الله عليه وسلم يكرر التهليل طوال موسم حجّه المبارك، فيردد: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له” وهذا الإخلاص هو صورة طبيعية للتوحيد الذي يشكل كل حركة وسكنة في هذا الموسم، وفي تلك المدرسة وجدناه -صلى الله عليه وسلّم- لما صلّى ركعتين عند المقام، قرأ في الركعة الأولى (قل هو الله أحد)، وفي الثانية (قل يا أيها الكافرون)، وكلاهما إعلان إخلاص وتوحيد قولي وعمليّ.
  2. ⁠الاستجابة الكاملة لأوامر الله تعالى ونواهيه؛ فيأتمر المسلم بالأمر القائم على الفعل، كما ينتهي عن النهي القائم على الترك، وقد استجاب إبراهيمُ الخليل لنداء الله حين قال له “وأذِّن في الناس بالحجّ” فاستجاب الناس على مرّ الزمان، وستظل تلك الاستجابة في الأمة إلى آخر الزّمان، وصدق الله إذ يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا ‌دَعاكُمْ ‌لِما ‌يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ»
  3. ⁠تربية المسلم على استدامة الذِّكر على كل حال؛ فلا تجد للمسلم حالا من أحوال الحجّ ولا الحياة بشكل عام إلا وفيها ذِكْرٌ بأي صورة من الصور “ليذكروا اسم الله”، ويقول المولى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ ‌مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» وعليه فإنّ المُسلم العاقل هو من يُكثِر مِن ذِكْر الله تعالى ولا يزال لسانه رطبًا بتذكّر مولاه، ورحلة الحجّ ومدرسته بفصولها تحتوي على الذِّكْر من أولها إلى آخرها، ويقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم: (أيام التشـريق أيام أكل وشرب، وذكر لله(.
  4. ⁠الإحسان إلى الخالق والمخلوق؛ فأما الإحسان إلى الخالق فهو قائم على جودة التنفيذ لما أمر به، عابدا لله كأنه يراه، كما يحسن الخلق في صدقاته المادية والمعنوية على السواء، وفي مدرسة الحج نتلمّس قيمة الإحسان على كل حال، حتى عند ذبح الذبائح ونحرها، تجد الرسول صلى الله عليه وسلّم، ينادي في نفوسنا وقلوبنا وأفئدتنا (إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسِنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسِنوا القتلة، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) وإنّ دينا يأمر أتباعه بالإحسان إلى البهائم عند ذبحها، كيف يُتصور أن يأمر أتباعه بالإرهاب أو التطرّف أو القتل والتدمير!!
  5. تطوير الذات وتغيير الحال مما كان عليه إلى ما ينبغي أن يكون عليه، وشعار المسلم في ذلك نداء ودعاء: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» وحسنة الدنيا التغير إلى الأفضل في كل شيء؛ تراك الدنيا وقد تغيّرت، فابتسم وطَوّر من نفسك، وغيّر ما يلزم لتكون النموذج الأمثل في الاقتداء بالإسلام، فالحجاج وغيرهم من أبناء الإسلام يلزمهم تربويا وأخلاقيا واجتماعيا أن يصدقوا القول والفعل، وأن يتخلقوا بأخلاق العفة والأمانة والوفاء، فموسم الحجّ ترويض للنفس على الأخلاق والقيم، من صبر وفداء وتضحية وتواضع.
  6. إعلان التوحيد لله وحده، ويستلزم ذلك اليقين الدائم بأن المُتحكّم في القضاء والقدر والرزق والآجال هو الله وليس سواه، وموسم الحج كله توحيد؛ فإنّ المتأمّل في قوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنـا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْـرِكْ بِي شَيْئاً» يفهم هذا الأمر بشكل متكامل، كما أنّ النّاظر في قول الحجاج: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك) يستوعب معالم هذا التوحيد.
  7. تربية على الاتباع للهدْي النبويّ، وتعظيم السُّنّة النبوية والقيام بحقها؛ فإن شعار “خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ” يعني الكثير والكثير في حياة المسلم، فيستقصـي عند حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله هدْي المصطفى وسلوكه، طلبًا للهدايـة والرشاد، وصدق الله إذ يقول: «‌وَإِنْ ‌تُطِيعُوهُ ‌تَهْتَدُوا» ونبينا هو القدوة والأسوة، ومن سار على هديه اهتدى، ومن تتبّع خطواته رشد وأرشد، وما أحوج أمّتنا اليوم إلى تلمّس مواضع الاقتداء بقائدهم المصطفى صلى الله عليه وسلّم.
  8. ⁠التربية الذاتية والعامة للنفس المؤمنة على النّظام والانضباط، والانخلاع من الفوضى والعشوائية؛ فالميقات المكاني والزماني والمحظورات وخلافه، ما هي إلا تربية على الانضباط المنشود في حياة المسلمين ومجتمعاتهم، والحقّ يُقال: إِنّ مدرسة الحج إذا انضبط فيها طُلَّابها بالضوابط التي وضعتها الشـريعة الإسلامية صاروا أعظم الناس وأكثرهم تقدمًا ورقيًّا، ولم لا؟! وكلّ ما فرضته الشـريعة إنما هو لصالح الخلق لا للإضرار بهم في معاشهم ومعادهم.
  9. ⁠تعظيم الشعائر والمشاعر؛ قال تعالى: “وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ”، فمدرسة الحجّ تُحوّل النفس المستهترة والمضيعة للشعائر إلى نفس مُعظِّمَة لكل ما شرع الله وفرَض، فهي رحلة الأدب والتربية، ترى الأدب مع الشجر فلا يُقطَع، وتراه مع الحجَر فيُقبّل، وتراه مع الطير فلا يتم ترويعه، وترى الأدب مع الصيد فلا يُقتَل، وترى الأدب يحيط بالمكان كله فلا إلحاد ولا ظلم ولا ترويع ولا فسوق ولا جدال.
  10. الأُمّة باقية ومنتصـرة حتما ولا بدّ، شاءَ من شاءَ وأبَى مَن أبَى، فرغم الافتراقات والاختلافات والتوجّهات فستبقَى أمّة واحدة، وستجتمع وستعود لها وحدتها وريادتها؛ وموسم الحجّ علّمنا أنه يمكن أن تجتمع هذه الأمة لقواسمها المشتركة وغاياتها المنشودة المتعلقة بإرضاء الخالق الجليل، ومعالم الأخوة الإسلامية ضمن مدرسة الحج واضحة للغاية، فالتقت الجنسيات المختلفة، بلغات مختلفة، وتصافحت القلوب، وتآلفت الأفئدة، وتنادى المسلمون (إنّما المؤمنون إخوة)، والناس سواسية، كلهم أبناء آدم، فهي كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى، نسأل الله تعالى أن يُعيد لأُمَّتِنا عزّتها وكرامتها.
  11. إظهار العبودية الكاملة لله رب العالمين، وقد رأينا سيدنا إبراهيم الخليل -عليه السّلام- يُظهر عبوديته لربه، رغم قسوة بعض الأوامر -كما يراها البعض-، فيُؤمَر بذبح ولده إسماعيل -عليه السلام-، الذي جاءه وهو كبير السنّ، وفرِح به فرحًا شديدًا، فلما أُمِر، انظر ماذا يقول ربُّنا؟، قال تعالى: «‌فَلَمَّا ‌أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ»، أسلَمَا، إسلامًا واستسلامًا كاملا؛ عبودية لله رب العالمين، وهذا درس من دروس تلك المدرسة، أن يستسلم المرء لأوامر ربه، ولو لم يفهم لأوامره حكمة، فلعل الحكمة في غياب الحكمة عن العقل؛ ليُختبَر المؤمن في تجرده وإظهار عبوديته لمولاه.
  12. زراعة الثقة بنصـر الله للإسلام: فإنّ مدرسة الحج تصنع اليقين وتزيد الثقة بنصـر الله تعالى، وأنّه مهما طال الظلم فلا بد من نصـر حتمي، ومهما طال البطش والعدوان فلا بُد من خذلان للظالم المتجبّر، وصدق الله إذ يقول: «هُوَ ‌الَّذِي ‌أَرْسَلَ ‌رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]».
  13. التيسير ورفع الحرج: فإنّ مدرسة الحج علّمتنا أنّ التيسير هو الأصل، وليس التشدد والعنف والتطرّف، فما من موقف لسيدنا النبي -عليه الصلاة والسلام-، في رحلة الحجّ، إلا وهو ييسـّر على الخلق من حوله، وما سُئل عن شيء، إلا قال لسائله: (افعل ولا حرَج) فلتتعلم الأمة التيسير ولتعِش بخُلُق وقيمة الوسطية في أمورها مجتمعة، ولترسم صورة حسنة عن إسلامها أمام الخلق كلّهم، وصدق النبي المبارك حين أمر بقوله: (يسّروا ولا تعسروا، وبشّر وا ولا تُنفِّرُوا).
  14. تذكّر الدار الآخرة: فإنّ النفوس المتعلقة بتلك الدنيا وزخارفها قد شاهدته ورأت وسمعت عن أُناس فاضت أرواحهم في موسم الحج عند عرفة أو في منسك ومشعر آخر من مشاعر الحج ومناسكه، ورأت العيون لباس الحجيج وزحامهم، وسمعت الآذان بعض طلباتهم من الرحمن بطلب العتق والشفاعة والغفران، إنها لحظات تذَكّر بيوم القيامة والدار الآخرة، ولعل من المناسب هنا أن نتذكر بدايات سورة (الحج) وهي تتحدث عن اليوم الآخِر؛ حيث يقول مولانا -جلّ شأنُه-: ((يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ ‌زَلْزَلَةَ ‌السَّاعَةِ ‌شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)).

وختامًا فإنه يمكن القول: بـأنّ هذه الرحلة هي رحلة أدب وتأدُّب باقتدار، كما أنّها رحلة تربية وتعليم بامتياز، فضلا عن كونها رحلة الأخلاق والقيم، وينبغي لكل مسلم أو مسلمة ألا تمرّ عليه الأحداث والمواقف بدون تأمل وتدبر واستمطار وسائل عملية لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى. نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم جميعا وأن يحضرنا في زُمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا.

بقلم أ.د/ عادل عبدالله هندي
أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية المساعد بجامعة الأزهر،

وعضو الدعم الفني بمركز ضمان الجودة بالجامعة،

ومدرب بالهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد

ads

اضف تعليق