كتب صحيفة التايمز الدولية
لم أعش الحرب الأهلية في لبنان من خارجها بل من موقع مختلف تماماً، فالبندقية التي كانت تلازمني على مدار الوقت شكلت حينذاك بطاقة هوية وانتماء، على خلفية سياسية تسعى إلى بناء وطن بديل من لبنان الـ1975، وعلى وقع جمهورية أفلاطون الفاضلة. لاحقاً أدركنا، أننا نتعقب السراب، أو أننا دُعينا إلى مأدبة الموت لنتقاتل وطواحين الهواء، فرحنا نزرع الريح لنحصد العاصفة… تشاركنا جميعاً بين ضفتي بيروت الغربية والشرقية حالة من الهلوسة الهذيانية، ومن دون اعتراف واحدنا بالآخر، سلّمنا ضمناً، كل على طريقته، بهدم وطن، والراهن يثبت ما آلت إليه رصاصاتنا التي كانت تزرع الموت والدمار في شوارع مكتظة بضحايا مفترضة من غير أن نعرف حتى وجودهم… كانت الأيام مشحونة بالقتل أو القتل المضاد، كلغة وحيدة غيّبت العقول والعواطف معاً… كنا ندافع عن الشيطان الذي يسكن دواخلنا. عندما كنا نطلق العنان لصراخ بنادقنا، كانت تنتابنا حالة من النشوة، لكأننا هنيبعل أو نبوخذنصر أو الاسكندر، كبعد تاريخي، كي لا أستلهم قادتنا الذين ذهبوا بنا إلى الطاحونة (…) لمعانقة الغبار والموت تحت عنوان: من مات منكم شهيداً فعند ربكم تبعثون. ولكن، لنترك هذه اللاحقة لحروبنا الصغيرة جانباً إلى جوهر ما كانته وما كناه. خضنا الحرب تحت عناوين كثيرة: وطن ديموقراطي، حماية الثورة الفلسطينية، ضد الانعزالية والكانتونات المصطنعة الخ… وقد شكلت بمجموعها كلمات سحرية، أو لنقل نافذتنا التي نطل من خلالها على العالم. وعلى وقع تلك المفردات كان الثمن باهظاً، بحيث إننا لم نغادر المقابر،
إلا لنعود إليها من جديد… كان الموت حصادنا اليومي… ومع ذلك كنا على استعداد لمواجهته، من دون أن نتكلف التفكير في أننا على لائحته السوداء. العودة إلى الوراء ليست مطلوبة دائماً، ولكن لاتصالها بواقعنا اليوم، تحت ظلال صمت المدافع، ننتج الماضي من دون ضجة،
في الخفاء، فكل الأحلام، والمصطلحات والشعارات تداعت لمصلحة بديل عتيق 6 و6 مكرر. ما صنعته أيدينا، أننا استعدنا حاضرة وطن قديم، يزرع اليوم كما كان بالأمس على إيقاع أسماء تبدلت في الشكل ولم يتبدل الجوهر الذي كان منذ إعلان لبنان الكبير، سلعة تباع وتشرى في سوق النخاسة. على ما تقدم، اعترف بأنني خضت حرباً بمفعول رجعي،
مذ احتلت القومية العربية ذاكرتنا، ومن بعدها ماركسية عصية على الفهم، فكنت المهزوم شأن الطرف الآخر الذي حاول أن يفهم العكس. تلك انطباعات أختمها بسؤال: مَن هزم مَن؟ كلنا تحت المقصلة. هو الدرس الوحيد الذي يجب ألا نتقنه. هذا ما استخلصته من حرب بدت لي عبثية عندما دهمني وعي مفاجئ، فأطفالنا لهم الأحقية في الحياة… بل أكثر.