كتب صحيفة التايمز الدولية
الطائر المذبوح
قصة قصيرة
تكاد عروقه تنفجر من الغضب ، تشجنات تعتلى كل خلجة من خلجاته ، وزملاء الفرقة الموسيقية يطلبون منه أن يغنى فى هذا الفرح .
أخذ يصرخ فيهم ، ويضرب بقبضته على الحائط حتى كاد أن يصيبها ، وهم يضغطون عليه متهمينه بالضعف وعدم المواجهة ، لأنها هى التى تركته .
جلس يبكى بصوت مرتفع وقد غطى وجهه بكفيه ، فانسحبوا من الغرفة وراء بعضهم .
عادوا مرة أخرى يعتذرون له ، لكن إصراراً غريباً اعتراه ، فقد عزم على الغناء .
كانت ملامحه تشبه الصخر ، وعيناه تلمع بطريقة غريبة ، وأصبحت كلماته آلية .
حاول أقربهم إليه إثنائه عن الغناء ، لكنه نظر إليهم ولم يتكلم .
جاءت الفرقة تحمل آلاتها ، الأنوار تعم المكان ، وتشع البهجة فى النفوس ، فمشى مطأطئ الرأس ، و اختفى فى إحدى الغرف وحيداً منتظراً دوره .
فتح صندوق الذكريات ، أطل برأسه داخله ، وفى أحد أركانه وجدها جالسة ، كانت لأول مرة يراها فى زواج واحد من أصدقائه التى كان يغنى فيه ، كان وقتها على المسرح ، وكانت تجلس على أحد المقاعد ترقب الفرح من أحد جوانبه ، وكان يشدو وقتها بأغنية سيرة الحب ، كانت تردد معه كل كلمة ، ظل بصره معلقاً بها ، شعرت به فأخذت تخفى وجهها بالنظر إلى الأرض ، وتنظر إليه بين الفينة والأخرى ، وقتها شعر أنه يغنى لها ، وما أن هبط من على المسرح حتى هرول يبحث عن أخت العريس التى رأها تكلمها فى وقت وهو على المسرح ، والتى كانت همزة الوصل فى التقريب بينهما ، ثم قامت بحمل آخر رسالة من حبيبته إليه ، و التى تطلب منه أن يسامحها فلم تستطع الوقوف ضد أهلها فى رجل طلب يدها ، وتخبره بأنها ستحبه لآخر نبضة فى قلبها .
جاء دوره فى الغناء ، صعد المسرح ، ألقى التحية على العروسين دون أن ينظر .
بدأت الموسيقى تحدث ضجيجاً فى المكان ، عازف (الدرامز) يدق بشدة ، السماعات تنشر الأصوات قوية فى الآذان .
بدا يتمايل محاولا إبعاد نظره عنها ، لكن رغماً عنه كانت تتلاقى الأعين .
أخذ يتحرك بعنف ، قشعريرة متواصلة تجتاح جسده ، السماعات تضرب فى رأسه ، ظل يتمايل على المسرح بجنون و يغنى سيرة الحب .
حاول زملاؤه أن يغيروا الموسيقى حتى لا يغنى هذه الأغنية ، لكنه لم يكن ينصت لموسيقاهم فأجبرهم أن يعزفوا ما يريد وظل يشدو
(طول عمرى بخاف من الحب وسيرة الحب
وظلم الحب لكل أصحابه
وأعرف حكايات مليانه آهات ودموع وآنين )
السعادة تظهر على الوجوه ، التصفيق الهستيرى للحضور مع التحيات التى تخرج إليه ، لم تجعله يتوقف لحظة لمن يريد أن يقدم نقوطاً ، وقد أغرق العرف ملابسه ، ظل يغنى
(والعاشقين دابوا .. ما تابوا
لا أنا قد الشوق ، وليالى الشوق
ولا قلبى قد عذابه) .
أعضاء الفرقة عيونهم ترقبه ، حركاته أصبحت أسرع ، و اختلط العرق بالدموع ، أخذ يدور على المسرح كالطائر المذبوح ، وظل يغنى كما لم يغنى فى حياته وبكى كما لم يبك فى حياته ، ثم سقط ، وتوقفت الموسيقى .
الجميع هرول إليه ، ولم تتحرك العروس وكانت تتمنى أن تكون أول الناس وصولاً إليه .
للروائي المصري/ محمد على عاشور