(الـبـيـتُ الحـوت)…قصـة الأديب المصري الكبيرأحمد عفيفى
الجمعة 20-12-2019 11:14
ثارت أمه آنذاك حين أسرَّ إليها برغبته فى الزواج من -سميحه-
كانت حُجتها:فقرها, وكثرة أخواتها, وفارق السنوات الثلاث التى تكبره بها..غير أن المعضلة لم تك رغبة أُمه,بل كانت -راتبه الزهيد- بعد خروجه من الحرب, وحالته الماديُة لذا لا تتميز كثيراً عن سميحه!
كان يرقبها نشواناً وهى تتهادى برشاقة -فطرية- , كانت أنحف من ظلها..وكانت مليحة وعفوية, لم يشغلهاإفتتاح المدينة الحرة والشغف بالذهاب إليها..
وكان يلقاها خارج الحارة, ليسلكا طريقا هادئا وينصت لحديث عينيها الصامت متأمًلاً وجهها الطفولى المليح, كان يراه كوجه قديسة هجرت الدير لإستقبال فارسها الذى سينتشلها من أعوامها الثلاثين الفائتة!
سنواتُ ثلاثُ مرًت, وكأن فيروساً محا ذاكرتة, عدا حيزاً فى جنباتها, ليس به سوى صورتها, وصورأشباح العائدين من جبهة القتال,
كان إبّان المعارك الليلية بين الدوىّ والزئير والصمت, يستجلب صورة-سميحة- ببرائتها وبسمتها الساحرة, فيمسك بخصلات شعرها المتدلى حتى قرب ردفيها, ويروى ظمأه من بئرعينيها العسليتين, ويسكرمن صوتها الخافت الحنون… مباركة سميحة بين النساء, كم تمنى أن يمنحها ما تبقى من عمره, لتمنحه الحياة التى أُخذت منه أكثر مما أعطت..وكان أجدى بها أن تترك له سميحة التى زُفّت إلى مسعود الخردواتى عن طريق الخطأ!
ثم مرت ثلاثون من السنين , أنشأ خلالها بيتاً تحول الى-حوت- , كلما تجول بأرجائه, إستبشعُ الوحشة, والأغلال الجارحة, قيتبرّم, ويتأوّه داخله, ويغيب, فتفيقه صفعة مباغتة من حفيده, الذى يقف بعدها صامتا مترقبا يمنى النفس أن يكون جده فى حالٍ يسمح بالغفران!!
ها هو يدفئُ بالذكريات ليله ووحشته وأصابعه التى لم تزل محشوّة بلغته الحزينة, يتساءل…هل مازالت تتذكره سميحة؟
التى مازالت تتهادى رشيقةً متألقةً فى مشيتها, تومئ له باسمة كلما تقابلا صدفة بالطريق, وكأنها تخبره أنها لم تزل فخورة بأنوثتها وأن العزاء له, وليس له سوى أن يعود الى بيته -الحوت-الذى يُغشًى الخواء جدرانه وحجراته, والذى يوحى له أنه شاخ , وأن عليه أن ينسى أو يتناسى-سميحة- التى من أجلها حارب, وانتصر, وانهزم!..
وحده إذن, يُفتًش حجرته بين الفينة والأخرى ليطمئن أن ليس بها دخلاء يختبئون كأشباحٍ ليقُضًون مضجعه.. وحده, وموقده الصغير, وإبريق قهوته, ومرآته التى يسكنها قرينه الذى ينادمه, ويشكو له أوجاعه, وشُحّ مائه, يمنحه سرّه, ثم يرفع له فنجانه ليشربا سويا نخب وحشته, حتى يجئ الصباح, فيستنشق هواءه, وينفِّض ذاكرته من الذين علقوا بها عدا -سميحة-..ستظل ذاكرته وعاءً لها, وعاءً مفعماً بالماضى والحاضر.
من المجموعةالقصصية (طقوسٌ صارمة ) للأديب المصري الكبير / أحمد عفيفى