عائلات فرقها البحر في جنوب شرق آسيا
الخميس 07-04-2016 16:42
كتب:محمدمحمدإسماعيل
سافر أكثر من 30,000 لاجئ ومهاجر عبر جنوب شرق آسيا في عام 2015، ومن بينهم حوالي 1,000 شخص قاموا برحلات خطيرة عبر مضيق ملقة من إندونيسيا إلى ماليزيا أو حاولوا الوصول إلى أستراليا من إندونيسيا وسريلانكا وفيتنام.
ووفقاً لتقرير جديد أعدته المفوضية، توفي المئات، معظمهم بسبب الجوع والجفاف والمرض والاعتداء من قبل المهربين. وظل العبور عن طريق البحر من خليج البنغال خطيراً بشكل خاص، إذ فاق معدل وفيات المعدل المسجل في البحر المتوسط بثلاثة أضعاف. فاثنا عشر شخصاً من أصل 1,000 شخص يبحرون من هناك، لا ينجون من الرحلة على متن القوارب، مما يعني أن حوالي 2,000 شخص من البنغلادشيين والروهنغا قد يكونون لقوا حتفهم في الأعوام الأربعة الأخيرة.
تعرفوا على أربع من أصل مئات إن لم يكن آلاف العائلات في جنوب شرق آسيا التي انفصل أفرادها عن بعضهم البعض بسبب الرحلات في البحر في عام 2015.
قاسم
يبلغ قاسم من العمر 17 عاماً، وهو مراهق نموذجي؛ فلباسه المفضل هو زي فريق نادي برشلونة. يريد قاسم أن يصبح طبيباً، وهو لا يسمع كلام أهله لدرجة أنه هرب من مسكن العائلة، ولكن الزيّ هو هبة قُدمت له. وبما أنه من الروهنغا، لم يُسمح لقاسم بالذهاب إلى الثانوية والمسكن الذي فرّ منه هو مخيم للاجئين في بنغلادش يبعد حوالي 1,900 كيلومتر. ولد في هذا المكان؛ قاسم لاجئ منذ الولادة.
UNHCR/Sarah Jabin ©كلاجئ من الروهنغا في بنغلادش، ذهب قاسم إلى ثانوية محلية على أمل أن يصبح طبيباً، ولكنه طُرد عندما علم مدراء المدرسة عن وضعه كلاجئ.
كان التعليم الابتدائي متوفراً في المخيم، ولكن لم يُسمح للمدارس بتوسيع منهجها حتى الصف الثامن إلا مؤخراً. وعندما أنهى قاسم المدرسة الابتدائية منذ بضعة أعوام، لم تكن الصفوف بعد العام الخامس متوفرة للاجئين، لذا فكّر في طرق أخرى للحصول على التعليم.
أولاً، ادعى أنه بنغلادشي وتسجل في ثانوية محلية لثلاثة أعوام مع بعض الأطفال اللاجئين الآخرين. وكان يستعد للدخول إلى الصف التاسع عندما اكتشفت إدارة المدرسة أن قاسم كان لاجئاً، فطُرد.
نصحته والدته بأن يتخلى عن حلمه بأن يصبح طبيباً، ويتذكر قاسم بأنها قالت له: “لا يمكننا تحقيق ذلك؛ أنا آسفة جداً”.
ولكن هذا لم يحبط عزيمة قاسم، ويتذكر قائلاً: “قررت أن أذهب إلى بلد آخر فربما سمح لي أحد الأشخاص أو إحدى الحكومات بالدراسة”.
ويعرف قاسم الكثير من الأشخاص الآخرين من الروهنغا الذين دفعوا للمهربين لأخذهم إلى ماليزيا على متن القوارب، ولكن أهله لم يسمحا لولدهما الوحيد بالذهاب. ولكن قاسم الذي يتوق للتعلم تحدى والديه وغادر المخيم في إحدى الليالي من شهر مارس/آذار 2015 دون علمهما. عرض أحد المهربين أخذه إلى ماليزيا دون أي دفعة مقدمة وأبحر قاسم على متن زورق صغير من تكناف، قبل أن يصعد أخيراً على متن قارب كبير أخذه إلى المياه التايلاندية.
أمضى حوالي شهرين في قارب مكتظ كان على متنه مئات الركاب الآخرين. ولم يكن هنالك مرحاض بل بضعة ألواح خشبية مربوطة عالياً فوق البحر بواسطة قضبان حديدية ملحومة تمتد إلى خارج هيكل السفينة.
عندما تخلى المهربون عن الأعداد الكبيرة من الحمولة البشرية في أوائل شهر مايو/أيار 2015، نُقل قاسم إلى قارب منعته السلطات من الرسو قبل اندلاع معركة مميتة على متنه بسبب خلاف على المياه، ما أسفر عن مقتل 13 شخصاً على الأقل. وكان راكب آخر قد توفي بعد أن أطلق قبطان القارب النار في رأسه لأسباب مجهولة. وتم لف الرجل بقطعة من القماش وصُلي على جثمانه وألقي في البحر.
وبعد القتال، أُنقذ قاسم من قبل صيادي سمك إندونيسيين وأُحضر إلى مأوى مؤقت. كان قد تخلى عن كل شيء- منزله وعائلته وحياته تقريباً- مقابل الحصول على التعليم، ولكن لم يتغير شيء تقريباً؛ فلا يزال يعيش في مخيم ولم يتمكن من الذهاب إلى المدرسة ولكنه ما زال يرغب في أن يصبح طبيباً.
حسن وفاطمة
في مسقط رأسه في بوسيدونغ في ميانمار، كان حسن سائقاً لأحد القادة الروهنغا المحليين، ولكن عندما اندلع القتال الطائفي في المنطقة في عام 2012، بدأ المتطرفون باستهدافه. فر إلى ماليزيا على متن أحد القوارب وأُجبر على ترك زوجته فاطمة وطفليه الصغيرين.
وبعد أن وجد الوسيلة والمهرّب الذي سيحضرهم بعد أكثر من عامين، قال لابنه: “لا تبكِ، سنجتمع قريباً”.
وافق حسن على دفع 11,000 رينجت (2,670 دولاراً أميركياً)، على أن تسدد فاطمة نصف المبلغ قبل الإبحار ويُدفع ما تبقى عند وصول العائلة. فقد توقعوا الوصول إلى ماليزيا في غضون ثلاثة أسابيع، وكان ذلك في مارس/آذار 2015.
وبعد سبعة وأربعين يوماً من انطلاقهم، تلقى حسن اتصالاً يبلغه بأن عائلته أصبحت بالقرب من تايلاند وبأنه يجب تسديد المبلغ الكامل فوراً. ويقول: “أخبرتهم بأنني لن أصدقهم إلا عندما أرى عائلتي أمامي”.
ولكن طفليه لا يتخطى عمرهما الخمسة أعوام والعامين، وأدرك حسن أنه كلما طال بقاء العائلة كلما زاد خطر تعرضهم للاعتقال أو المرض أو الموت. بوما أنه لم يملك خياراً آخر، سدد المبلغ.
لم يسمع خبراً عنهم لمدة 11 يوماً، إلى أن تلقى مكالمتين فائتتين من رقم إندونيسي بينما كان في العمل. عاود الاتصال ولكن الرقم المطلوب كان خارج الخدمة. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، رن هاتفه مرة أخرى.
وقال صوت مألوف: “السلام عليكم”.
قال حسن لفاطمة والدموع في عينيه: ” أنقذك الله”.
وتذكرت فاطمة قائلةً: “عدت إلى الحياة من جديد؛ فقد كنا موتى في البحر”.
وأخبرت حسن بأن البحرية الإندونيسية سحبت القارب الذي كانت على متنه نحو ماليزيا ومن ثم نحو إندونيسيا قبل أن يندلع قتال مميت بين أشخاص بنغلادشيين ومن الروهنغا في البحر، فتحطم القارب. وبينما كان على وشك الغرق، أنقذ صيادو سمك فاطمة والطفلين.
وفي يونيو/حزيران 2015، أخبر حسن المفوضية قائلاً: “أنا سعيد لأنهم على قيد الحياة وفي مكان آمن، لكنني أريد رؤية أطفالي؛ هذا كل ما أريده”.
عبد الرشيد وسينوارة
قال عبد الرشيد لزوجته سينوارة: ما من مكان أعيش فيه”. وكانت هذه إحدى المرات الأخيرة التي رآها وابنهما المولود حديثاً، منذ أكثر من عام، عندما كان يستعد لمغادرة البيت في مينغدو، ميانمار. وباعتباره “ملا”، شعر بأنه مستهدف، فاضطر إلى المغادرة سريعاً. وقال عبد الرشيد لسينوارة: “إن لم تجديني، فاعرفي أنني غادرت”.
وفي يناير/كانون الثاني 2015، عرض أحد المهربين أخذ عبد الرشيد إلى ماليزيا على متن قارب، مقابل 50,000 كيات ميانماري (40 دولاراً أميركياً) مدفوع مقدماً، بناءً على اتفاق بأن يعمل عبد الرشيد في ماليزيا لأشهر أو أعوام لتسديد كامل تكاليف الرحلة التي قد تتخطى 2,000 دولار أميركي. ويتذكر عبد الرشيد بأن أكثر من 1,000 راكب كانوا على متن قاربه وتوفي اثنا عشر شخصاً منهم على طول الطريق بسبب الحرمان والتعرض للضرب من قبل أفراد الطاقم. جثم إلى جانب رجل آخر من الروهنغا من مينغدو، تضور جوعاً بصمت إلى أن توفي في إحدى الليالي.
وبعد احتجازه على اليابسة لعدة أسابيع بالقرب من المكان الذي عثرت فيه السلطات في وقت لاحق على جثث أكثر من 200 شخص من البنغلادشيين والروهنغا، وصل عبد الرشيد إلى ماليزيا في مارس/آذار 2015. وبدأ يعمل في البناء والنجارة، ويرسل كل ما يكسبه إلى سينوارة لتتمكن وطفلهما من الانضمام إليه.
وفي مايو/أيار 2015، علم عبد الرشيد بأن زوجته وابنه كانا في البحر ولكنه لم يعرف مكانهما. وبعد بضعة أيام، اتصلت به وأخبرته بأن أفراد الطاقم تركوا القارب واستقلوا زورقاً سريعاً ووجهوا الركاب إلى ماليزيا. وكان القارب الذي كانت على متنه مع طفلها و5,000 شخص آخرين قد تُرك ليبحر من دون هدف في بحر أندامان عندما أدرك المهربون أنهم لن يستطيعوا إنزال حمولتهم البشرية دون أن يكتشف أمرهم.
أخبرت سينوارة عبد الرشيد عبر الهاتف بأن طفلهما مريض، فحاول العمل على إخراجهما من القارب واتصل بأحد المهربين على الرغم من التحذيرات بعدم القيام بذلك. ولديه تسجيل للمكالمة التي بدأت بتعريف عبد الرشيد عن نفسه بأنه “ملا”.
وقال عبد الرشيد للمهرب: “زوجتي مع الطفل، والطفل مريض وأنا أطلب منك رجاءً أن توصلهما إلى الشاطئ”.
فأجاب المهرب: “هنالك أمهات كثيرات مع أطفال صغار، ثمة 22 أماً مع 22 طفلاً صغيراً”. وشرح قائلاً بأن إنزال النساء والأطفال بشكل خاص صعب لأنهم لا يستطيعون السير خلال الليل من دون أن يكتشف أمرهم، وأضاف: “هل يمكننا منع الأطفال من التكلم؟”.
فرد عبد الرشيد وقال: “يا أخي، طفلي ليس كبيراً بما فيه الكفاية ليتكلم؛ فلم يبلغ حتى عاماً واحداً من العمر”.
القارب التي صعدت على متنه زوجة عبد الرشيد والطفل كان أحد القاربين اللذين وصلا إلى لانكاوي في 11 مايو/أيار 2015 وعلى متنهما 1,110 ركاب، من بينهم 375 شخصاً من الروهنغا. نُقل الجميع إلى مركز احتجاز المهاجرين في بلانتيك في قدح، حيث لا يزال الروهنغا محتجزين منذ تسعة أشهر، أما البنغلادشيون فقد أُعيدوا جميعهم إلى الوطن.
ويفكر عبد الرشيد حالياً بمغادرة ميانمار لأن وضعه غير قانوني في بلد غريب كما أن زوجته وطفله يقبعان وراء القضبان. يقول بصوت مليء بالحسرة: “لا أنصح أحداً بالقيام بهذه الرحلة”. ويتذكر المعاناة التي مرت بها عائلته في الوطن ولكنه لا يستطيع أيضاً إخفاء الحنين لـ”البقاء في بلد تستطيع أن تقول بأنه لك،” كما يقول.
روهيما وعلي وشهيدة
تقول روهيما بينما تتذكر العنف الطائفي الذي دمر سيتوي في ميانمار في عام 2012: “خسرنا كل شيء”. وبما أن بلدتها احترقت، بحثت روهيما عن الأمان في أي مكان قد تجده فيه وانضمت إلى أشخاص آخرين من الروهنغا على متن قوارب الصيد المتوجهة إلى ماليزيا. ولكنها استطاعت تحمل تكاليف سفر طفل واحد من أطفالها الثلاثة معها فقط. وفي وجه هذا الخيار المستحيل، اصطحبت روهيما ابنها الأصغر الذي كان يبلغ من العمر ثمانية أعوام في ذلك الحين. وتركت ابنها الأكبر علي، الذي كان يبلغ من العمر 15 عاماً، وابنتها شهيدة، التي كانت تبلغ من العمر 11 عاما، مع خالتهما.
وبعد الوصول إلى ماليزيا، تم احتجاز روهيما لأربعة أشهر. وساعدت المفوضية في ضمان إطلاق سراحها وبدأت تعمل في تنظيف الشوارع على أمل ادخار ما يكفي من المال لإحضار علي وشهيدة. وكانت تقول لهما على الهاتف: “إنني أعمل وأجني المال وسأحضركما إلى هنا”.
وفي أوائل عام 2015، لم تكن روهيما قد جمعت ما يكفي من المال للرحلة، ولكن علي وشهيدة أصرا على الانضمام إلى والدتهما وأخيهما الصغير. وقالت خالتهما لروهيما عبر الهاتف: “إنهما مشتاقان إليكما كثيراً ولا يتوقفان عن البكاء”.
وفي أبريل/نيسان 2015، عندما أتاح المهربون في سيتوي إمكانية العبور إلى ماليزيا دون دفعة مقدمة، قررت العائلة المخاطرة والقيام بالرحلة حتى من افتقارها للمال. وعلى الطريق، نُقل علي وشهيدة من قارب إلى آخر بينما تسابق المهربون على إنزال الركاب الذين لا يستطيع أقاربهم الدفع. وأُشيع أن أحد القوارب التي نُقلا إليها كان سوقاً عائماً للأشخاص الذين فُقد الأمل من تسديدهم التكاليف حيث يدفع المهربون تكاليف بسيطة عنهم، واثقين من أنهم سيتمكنون من استعادة الأموال.
وبين حركات النقل هذه، تلقت روهيما اتصالاً من مهرّب ادعى بأن علي وشهيدة في تايلاند وأن إيصالهما إلى ماليزيا سيكلف 6,000 رينجت (1,440 دولاراً أميركياً)، وأعطى السماعة لعلي.
وقالت روهيما: “عندما كلمني، قال بأنه تعرض للضرب. وكان صوته ضعيفاً ومنخفضاً”.
وعلمت روهيما في ما بعد أن علي وشهيدة لا يزالان في البحر. ولكن هذا لم يحدث أي فرق – فهي لا تملك المال لتدفع.
وبعد ثلاثة أيام، رن هاتف روهيما مجدداً وكان علي المتصل، وقد وصل مع شهيدة إلى إندونيسيا . والقارب الأخير الذي صعدا على متنه كان الأول الذي أنزل ركابه في مايو/أيار.
وفي يونيو/حزيران 2015، نظمت المفوضية اتصالاً عبر سكايب بين روهيما وطفلها الصغير في ماليزيا وعلي وشهيدة في إندونيسيا . وكانت هذه المرة الأولى التي يرون بعضهم البعض فيها منذ ثلاثة أعوام.
وقالت روهينا لعلي: “تبدو بصحة جيدة، اعتنِ بشقيقتك،” وطلبت من شهيدة عدم البكاء.
وكان شقيقهما الأصغر بجانبها يحاول الظهور في إطار كاميرا الهاتف وقال لعلي: “تبدو وسيماً”.
وفي وقت كتابة هذه القصة، يُعتقد بأن علي وشهيدة قد غادرا بمفردهما مأواهما المؤقت في إندونيسيا . مكان وجودهما مجهول كما أن خط هاتف روهيما لم يعد في الخدمة.
أعدت وحدة مراقبة التحركات الإقليمية البحرية في المفوضية هذا التقرير في بانكوك، تايلاند. وفي عام 2015، أجرت الوحدة مقابلات مع أكثر من 1,000 لاجئ ومهاجر سافروا عبر البحر في جنوب شرق آسيا. وتستند هذه القصص إلى مقابلات أجريت مع الناجين وأقاربهم وإلى تقارير إعلامية. وكان أبرز المساهمين في الـتأليف، كيان شوم وسارة جابين وفهمينا كريم وسو ماينت.