وكيل كليةالدعوةالإسلاميةللدراسات العلياأ.د/محمد عبد الدايم الجندي يكتب ( لقوم يعقلون): “الإمام البخاري يتحدى منكري نسبة الصحيح إليه”
الثلاثاء 08-11-2022 22:10
تعرض صحيح البخاري ـ كغيره من كتب السنة ـ لهجمة شعواء تريد أن تهز أركان الدين، وتداهم حصونه، ولكن الله تعالى تكفل بحفظ الوحي كله كتاب وسنة، والهجمة على أصول الدين من قبل خصومه وأعدائه قديمة ولكنها متجددة بتجدد الزمان وبتجدد فرسان الباطل الذين توارثوا الضلال عن ساداتهم وأساتذتهم، وقد تصاعدت في الآونة الأخيرة أشكال تلك الهجمات مع تصاعد التقدم التقني وموجات البث الفضائي التي لا تحكمها حدود دولية، ولا أخلاقية.
ولا شك أن حملات تشويه صحيح البخاري تعمل جاهدة على تكدير صفو الحياة، وتراوغ لتستدرج الوعي الفكري لدى المؤمنين ـ سيما الشباب ـ ليسلموا لرؤى مشرعنة تزييفاً وزوراً، ويستسلم لعقول ممزوجة بظلمات بحر لجي تتابعت ظلماته ، بعد أن غشيته أمواجه المتطابقة فآثارهما استطارت الأفئدة شعاعا ورهباً ، وهي كثيرة لا تحصى فأحصيها ، ولا هي مما يستقصى فأختار بعضا من نواحيها، فيالها من عقول مظلمة خابية الشعاع تستحق المواجهة؛ فإما تسلم للحق، وإما ينصت أصحابها ويتوقفوا عن حملاتهم، فلم يعد لديهم ما يُقنعون به ضمير ديننا المعصوم باستحقاقهم للتمادي في حملاتهم المسعورة بعدما انتهت إليه أفكارهم الضامرة.
والمشككون في الصحيح يمثلون سلسلة مراحل، كل مرحلة لها دوره المنوطة به، فمنهم المستخفون ومنهم المجاهرون، منهم الباحثون، ومنهم المدلسون، ومنهم المبلغون والدعاة إلى منتجاتهم الخبيثة، وشبهاتهم المغرضة، ومنهم المبلغون في الشرق والغرب، وهم طلابهم الذين تتلمذوا وتخرجو عليهم، وهؤلاء تجلت أدوارهم عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة.
نص الشبهة:
قالوا: لم يشهد البخاري الصحيح مكتوباً:
ادعى أصحاب هذه الشبهة أن البخاري رحمه الله مات قبل أن يسطِّر الصحيح، وأن تتمته كانت على يد من جاء بعده، فكان الصحيح منقوصاً، وقد استدل أصحاب هذه الشبهة بما ذكره الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي قال حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيء ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض قال أبو الوليد الباجي ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشمهينى ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث، قال الباجى: وإنما أوردت هذا هنا لما عني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ انتهى قلت وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدا.
وهذه الشبهة توهم القارئ أن الإمام البخاري لم يترك الصحيح مسطراً ومنتظماً، وإنما ترك مسودة غير مبيضة ولا منقحة، وهذا مدعاة لعدم الدقة والضبط ، ويقصدون من هذا الزعم إلى التشكيك في صحة البخاري.
وتفنيد هذه الشبهة يأتي من عدة وجوه:
أولاً: أن ما ذكره المستملي والباجي يقصد به التراجم وليس الأحاديث:
إن الإمام البخاري رحمه الله سطّر كتابه وضبطه ونظمه، وبلغ فيه منتهى التهذيب، ومن سياق الكلام يتضح جلياً أن الإمام البخاري رحمه الله بيض تراجم لم يذكر فيها حديثاً، أو ذكر بعض الأحاديث دون أن يسم لها باباً، وفي ذلك حجة على من أنكر، حيث يشير إلى أن البخاري بيّض أحاديثه بنفسه، ونقحها.
ثانياً: ما ذكره المعلمي في الأنوار الكاشفة: أن البخاري حدث بتلك النسخة وسمع الناس منه منها وأخذوا لأنفسهم نسخاً في حياته، فثبت بذلك أنه مطمئن إلى جميع ما أثبته فيها. لكن ترك مواضع بياضا رجاء أن يضيفها فيما بعد فلم يتفق ذلك، وهي ثلاثة أنواع:
الأول: أن يثبت الترجمة وحديثاً أو أكثر ثم يترك بياضاً لحديث كان يفكر في زيادته، وأخر ذلك لسبب ما ككونه كان يجب إثباته كما هو في أصله ولم يتيسر له الظفر به حينئذ.
الثاني: أن يكون في ذهنه حديث يرى إفراده بترجمة فيثبت الترجمة ويؤخر إثبات الحديث لنحو ما مر
الثالث: أن يثبت الحديث ويترك قبله بياضاً للترجمة لأنه يعني جداً بالتراجم ويضمنها حديثاً وينبه فيها على معنى خفي في الحديث حمله على معنى خاص أو نحو ذلك. فإذا كان متردداً ترك بياضاً ليتمه حين يستقر رأيه وليس في شيء من ذلك ما يوهم احتمال خلل في ما أثتبه.
ثانيا: من الأدلة القارعة المرغمة والأدلة الواخزة الملجمة على أن الإمام البخاري حرر كتابه بنفسه من قول الإمام أبي جعفر محمود عمر العقيلي:لَمَّا ألَّف البخاري كتاب الصحيح، عرَضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث، قال العُقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحه.
ثالثاً: من الحجج الدامغة لشبهة إنكار نسبة الصحيح للإمام البخاري ورود الصحيح منسوباً إلى البخاري بالتواتر والسماع عنه مباشرة، وهو أقوى من المكتوب الذي قد يشك في تصحيفه أو تحريفه، وهو نفسه أقوى ما وصل إلينا القرآن من خلاله، فعن محمد بن يوسف الفربري أنه كان يقول سمع كتاب الصحيح لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل فما بقي أحد يروي عنه غيري ،وعن الفربري أيضاً، أنه قال: قال: محمَّد بن إسماعيل البخاري: ما وضعتُ في كتاب “الصحيح” حديثاً إلا اغتسلتُ قبلَ ذلك، وصليتُ ركعتين، فأي أدب كهذا مع حديث رسول الله؟!!.
رابعاً: مما يدحض ما سولته الأصابع الخفية الخبيثة التي جاءت لتلقي بوابل من الدسائس المشينة على كاهل الصحيح المظلوم، واختلط الأمر على المفاهيم وأشكل، أن نسخة الصحيح الأصيلة التي سطرها الإمام البخاري بيدها بقيت عند تلميذه الفربري، وقد تلقاها عنه جمع غفير من الأكابر، وقد اشتهر منهم تسعة أو سبعة من الحفاظ المخضرمين، والذين قاموا بنسخه من الأصل؛ ومنهم: ” أبي محمد الحموي وأبي إسحاق المستملي وأبي الهيثم الكُشميهني عن الفربري عن البخاري”، ونراهم في سند الإجازات، ومن أمثلة ذلك: “أبو الحسن علي بن حميد بن عمار الطرابلسي، أنبانا أبو مكتوم عيسى بن الحافظ أبي ذر عبد بن أحمد ابن محمد الهروي، أنبأنا المشايخ: العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي، وأبو محمد عبد الله بن حمّويه السرخسي، وأبو الهيثم محمد بن مكي الكُشْمّيْهَني، قالوا: أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن يوسف بن مطر ابن صالح الفربري أبنأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري قراءة عليه وأنا أسمع، مرتين: مرة ببخارى ومرة بفربر”.
وكان سماع الإمام المحدث أبو إسحاق المستمليّ للصحيح في سنة أربع عشرة وثلاثمائة، وقال المستمليّ: “انتسخت كتاب البخاري من أصله ، كما عند ابن يوسف فرأيته لم يتم بعد، وقد بقيت عليه مواضع مبيَّضة كثيرة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً ، ومنها أحاديث لم يترجم عليها ، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض.
خامسا: تأكيد البخاري على أنه أتم الصحيح، وهذبه، ودققه، وراجعة ثلاث مرات قبل موته:
يقول أبو جعفر محمد بن أبي حاتم، سمعت أبا عبد الله ـ البخاري ـ يقول: صنفت جميع كتبي ثلاث مرات.
وقال البخاري: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين ، وعنه أنه قال : صنفت (( الجامع )) من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله، وقال: صنفت كتابي (( الجامع )) في المسجد الحرام ، وما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى ، وصليت ركعتين وتيقنت صحته.
يقول العلامة أبو شهبة” وليس أدل على ما بذله من جهد وتنقيح وغربلة للأحاديث حتى جاء كتابه في غاية الصحة من قوله: «جَمَعْتُ كِتَابِي هَذَا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفَ حَدِيثٍ» وقد استفاض واشتهر أن البخاري لم يمت إِلاَّ بعد أن حَدَّثَ بصحيحه الكثيرين من تلاميذه وأنهم تسابقوا في كتابة أصله الذي بالغ في التحري في جمع أحاديثه حتى وصل إلينا كما تركه.
• نتيجة حتمية:
بعد العرض السابق لم يعد مجال لقائل بأن البخاري لم يكتب صحيحه، ولم يترك أصلاً مبيضاً، فالبخاري كان يصنف ثلاث نسخ من كل مؤلف من مؤلفاته، وفي مقدمتها” الجامع”، وأما النسخة التي وجد فيها بعض النقص فهي ثالث النسخ التي كان يبيضها بيده، وعليه فالقول بأن أحداً من النساخ أو التلاميذ تصرف في صحيح البخاري بعد موت صاحبة أي تصرف، هو قول ممتنع غير مقبول عقلاً ومنطقاً؛ إذ ليس من الممكن أن يلقى تسعة آلاف من طلابه للصحيح بعد أن عرضه على الكبار من العلماء من أئمة الحديث، ثم يقال بعد ذلك أن الإمام البخاري لم يستقر على صورة الجامع النهائية، فهل يعقل أن يقره العلماء على شيء غير مصنف، أو غير مكتمل، أو غير مبيض، إذن على اذا أقروه؟؟؟، أم إنهم أقروه قبل أن يوجد الصحيح؟!!!، وفيم قضى الإمام مسيرة الستة عشر عاماً؟!!! بالطبع كلام غير معقول، والقائل به متغطرس مجادل بالباطل.