ads
رئيس التحرير
ads

مصيبة اللحن في العربية ! أ.د.محمد عمر أبوضيف: أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقدبكلية الدراسات الإسلاميةوالعربيةبسوهاج ،وعميد الكلية سابقا.

الثلاثاء 15-11-2022 01:12

كتب

اللحن في العربية وعدم إقامة الإعراب قبيح، مرذول، مذموم ممن ينسب إلى علوم الدين والشريعة، وأشد كراهة، وأكبر قبحا، وأعظم ذاما إذا جاء ممن ينسب إلى العربية وعلومها، فإذا ترقى في الدرجات العلمية كان مريعا، فظيعا، غير مقبول، ولا معذور، خاصة ممن تعرض للتصدر، وقدَّم نفسه على الصفوف، وقد قالت العرب: لا يستحق الرثاء من تعرض للبلاء.
واللحن يصد المتلقي عن المتكلم، ويسقطه من نظره وسمعه، ويضيع المعاني، ويذهب ببهاء الكلام وجماله، وقد خاف منه علماء العربية – قديما-، وحرص اللغويون والنحويون على تخليص العربية منه، والقضاء عليه ما أمكنهم ذلك، وبذلوا لذلك الجهود المضنية، وكتبوا لأجل ذلك مؤلفات عديدة، كتبوها للعوام وجماهير الناس، وللعلماء والمتخصصين، منها: كتاب “إصلاح المنطق”، ليعقوب بن إسحاق، المشهور بابن السكيت. وكتاب ” لحن العامة”، لسهل بن محمد السجستاني، وكتاب “ما تلحن فيه العامة”، للكسائي، و”التكملة فيما تلحن فيه العامة” ، للجواليقي، و”الرد على الزبيدي في لحن العامة” ، للخمي، و”النحو ومن كان يلحن من النحويين” ، لابن شبّة، و”ما تلحن فيه الخاصة” ، لأبي هلال العسكري، و”درة الغواص في أوهام الخواص” ، للحريري، و”التنبيه على حدوث التصحيف” ، لحمزة بن الحسن الأصفهاني ، وكتاب “أدب الكاتب” لابن قتيبة، و” الفصيح” لأبي العباس ثعلب، و”ليس في كلام العرب” لابن خالويه، و” لحن العوام” للزبيدي، وكتب أخرى كثيرة.
وهذه الأسفار وغيرها كتبت لأهمية هذه القضية – اللحن- للعرب والمسلمين؛ لأنها تسقط مكانة الرجل، وقد تضيع مستقبله في العمل، فقد دخل خالد بن صفوان التميمي على بلال بن أبي بردة، فحدثه، ولحن. ولما كثر لحنه على بلال، قال له: “يا خالد، تحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقاءات!” والسقاءات : نساء يسقين الماء للناس.
وقد أورد ياقوت الحموي، أن طاهر بن الحسين، قدم والعباس بن محمد بن موسى على الكوفة؛ فأرسل العباس كاتبه إليه، وقال لطاهر: “أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام”، وفيها أكثر من لحن، فسأله طاهر: وما أنت منه؟ فاجابه: “أنا كاتبه”.
وينهي هذا اللحن المستقبل السياسي للعباس بن محمد بن موسى بصرفه عن الكوفة، وعزله عن ولايتها ؛ لأنه لم يتخذ كاتبا يحسن الأداء عنه، ويجيد التعبير بالعربية الصحيحة.
بل ربما يزيد الأمر، فلا يُكتفي بصرفه عن العمل، بل يُهان فوق ذلك، فقد بعث الحجاج إلى والي البصرة؛ كي يرسل له عشرة رجال. فاختار رجالا، منهم: كثير بن أبي كثير. ودخل كثير عليه، فسأله الحجاج: “ما اسمك؟” فأجابه: “كثير”. فسأله الحجاج: “ابن من؟” فقال كثير: ” خفت إن قلتها بالواو لم آمن أن يتجاوزه”، فأجابه: أنا ابن أبا كثير”، وفيها لحن؛ لأن الصحيح ابن أبي”، فقال الحجاج: عليك لعنة الله، جيئوا في قفاه”.
وقد كانوا يرون أن اللحن ذنب، وهو من أسباب قلة الرزق عنده. وجاء في معجم الأدباء لياقوت الحموي، أن الخليل بن أحمد الفراهيدي، سمع أيوب السجستاني يحدث بحديث، فلحن فيه، فقال:” أستغفر الله”. ثم يفسر: “يعني أنه عد اللحن ذنبا”. فهو يستغفر منه ؛ لتعرف خطورة اللحن عندهم، فهو ذنب وفي الشرع قد يؤدي لبطلان العبادة، كمن يقرأ الفاتحة، فيقول في: “أنعمت” بضم التاء للمتكلم.
واللحن في اعتقادهم يمنع الرزق، ويمحق البركة، فقد كان الأعرابي إذا دخل سوقا وسمع فيها لحنا؛ يقول: ” العجب، يلحنون، ويربحون؟!”.
واللحن كما ذكرنا يصد السامع عن المتكلم، وربما يمنعه من الاصغاء إليه أو قضاء حاجته، أو جلب المنفعه له إن كان عنده نفع،
فقد كان الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، في مدينة دابق. فتقدم منه رجل، وقال: “يا أمير المؤمنين، إن أبينا هلك، وترك مال كثير؛ فوثب أخانا على مال أبانا، فأخذه”. فغضب الخليفة الأموي؛ لفداحة اللحن الذي ورد في كلام الرجل، فقال له: “فلا رحم الله أباك، ولا نيح عظام أخيك، ولا بارك الله فيما ورثت”، ثم يأمر الخليفة بإخراج الرجل من مجلسه،: ” أخرجوا هذا اللحان عني!”.
وهذا وإن رآه بعض الناس – في زمننا- ظلما، إلا أنه حق اللغة والدين؛ فاللغة هي الهوية، ومن فرط في حقها سهل عليه أن يفرط في غيرها من حق الأخوة، وفي حق الوطن، وفي أي حق آخر.
وقد رأوا أن أي شيء يدعو للحن، هو حرب ينبغي للرجل أن يستعد لها، وأن يجهز أسلحته؛ للانتصار فيها، وأعلي هذه الأسلحة :القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وحفظ أساليب العرب، ودراسة قواعد العربية؛ ولذا لما كان الوقوف أمام الناس في الصلاة يؤدي للحن في اللغة لهيبة الموقف، سموا ما يقف فيه الإمام المحراب، وقد جاء في “لسان العرب” عن سبب تسمية المحراب محرابا، ما يوضح ذلك، ويظهر هيبة اللغة العربية، والخوف من ارتكاب أخطاء فيها. فهو يقول: “قيل إن المحراب سمي محرابا؛ لأن الإمام إذا قام فيه لم يأمن أن يلحن أو يخطئ!”.
وكان أهل الفضل، وأهل الأدب العالي، رغم رقة قلوبهم، ورهافة حسهم، وبعدهم عن أي حرف يحرج الناس، أو يخجلهم، لا يقبلون اللحن، ولا يرضون به، ويظهرون ذلك بأدب جم، وحياء عال، فقد جاء عن الحسن البصري مما يستلطف ويجمل أنه جاءه رجل، وقرع عليه، قائلا: ” يا أبو سعيد”، وفيها لحن؛ فلم يجبه البصري. فكرر الرجل، وقال: ” أبي سعيد”، وفيها لحن، أيضا. فقال له البصري: ” قل الثالثة، وادخل! “.
وقصد بالثالثة: ” يا أبا سعيد”، وهي خالية من اللحن.
ولولا الإطالة في المقال؛ لذكرت لك الأمثلة، التي تظهر شدة الأمراء، والعلماء على من يلحن في لغته، لكن فيما ذكرنا كفاية.
كما يجب أن نفرق بين من يلحن لجهل، ومن يلحن لسبق لسان، وغفلة طارئة، فالذي يلحن لجهل؛ يكثر لحنه ويتكرر، وربما لا يستطيع متابعه أن يحصي له، بينما من يسبقه لسانه، أو تحدث له غفلة طارئه، لايلبث أن يرد خطأه، ويرجع لصوابه، ويتنبه فيعود للجادة، ويرجع للصواب، وهو في ذلك يستشعر كبوته، ويحس بزلته، وإن لم تسعفه البديهة، أسعفه العقل، وأدركه العلم؛ فعاد وكرر عبارته بالسداد.
ولله الأمر.

ads

اضف تعليق