أ.د.محمد عمر أبوضيف: أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقدبكلية الدراسات الإسلاميةوالعربيةبسوهاج ،وعميد الكلية سابقايكتب:جريمة الغش دمار للمجتمع!!
الأربعاء 07-12-2022 21:51
انتشرت هذه الأيام ظاهرة الغش واستفحلت ؛ حتي وصلت لدرجة ترتب عليها إزهاق الأرواح، وقتل الناس – كما سمعنا عن قتل أربعة عشر طفلا ؛ نتيجة لغش في الأدوية – ، في استهتار عجيب، ولا مبالاة غريبة بالدين، والقانون، والمجتمع، والناس ،أما القانون فأترك الحديث عنه لأربابه، وتقدير العقوبة المترتبة علي حجم الضرر لأصحابه، وأما حديثي فعن ضرر الغش علي دين صاحبه، وأثره علي المجتمع ، فقد قرر أهل العقول، ومن ينظرون في عواقب الأمور أنِّ الغِشَّ والخِداعَ يَجلِبُ على المجتمَعِ المصائب والوَيْلاتِ، وينشر الكراهية والبَغضاءَ، ويشيع الخلاف والتَّشاحُنَ بين النَّاسِ، ويترتب علي انتشار هذه الخلائق: الضنك، والضيق، والفقر، والإملاق، والأمراض النفسية والبدنية، والأوبئة والجوائح، وتسلط الظلمة، وانتشار البغاة والطغاة والمفسدين في الأرض ، قال ابن حجر الهيتمي في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/400): ولهذه القبائح -أي الغش- التي ارتكبها التجار، والمتسببون، وأرباب الحرف والبضائع سلط الله عليهم الظلمة؛ فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم، بل وسلط عليهم الكفار؛ فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألوانًا. وكثرة تسلط الكفار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حدث في هذه الأزمنة المتأخرة، لما أن أحدث التجار وغيرهم قبائح ذلك الغش الكثيرة والمتنوعة، وعظائم تلك الجنايات، والمخادعات، والتحايلات الباطلة على أخذ أموال الناس، بأي طريق قدروا عليها، لا يراقبون الله المطَّلِع عليهم. وكأن ابن حجر – رحمه الله- يعني زمننا، فهذا الذي ذكره صار معاينا مشاهدا منتشرا في البلاد، نسأل الله العفو والعافية.
وفي (التذكرة الحمدونية، لابن حمدون :424) قال المنصور: لا تنفِّروا أطراف النعم بقلة الشكر، فتحلَّ بكم النقمة، ولا تُسرُّوا غشَّ الأئمة، فإنَّ أحدًا لا يُسِرُّ منكرًا إلَّا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه، وطوالع نظره. فالغاش وإن ستره الله حتي يرعوي مرة ومرارا فإن لم يتب سيفضحه الله بسوء عمله، ويهتك ستره، ويعرفه الناس بغشه وخداعه .
والغش وإن كان فيه ضياع للدنيا، وذهاب لحلاوتها، وتكدير لرائقها، فهو للدين أشد ضياعا، وللإيمان من القلوب أسرع انتزاعا ؛ لذا جاء حديث نبينا – صلَّى الله عليه وسلَّم- :”مَن غشنا فليس مِنَّا”. وهو بيان شاف، وتوضيح كاف ،أنَّ الغِشَّ ليس مِنَ الإسلامِ، وأنَّ الغشَّاشَ على خَطرٍ عَظيمٍ، والخطورة في أعظم شيء يملكه، وهو الدين ، والحديث جاء بلفظ عام، فهو يعمُّ الغش في كل مناحي الحياة في المعاملات، وفي الأخلاقيات وإظهار الغاش ما ليس فيه، ويشمل أشياء كثيرة حتي الغش في النصيحة والمشورة، وفي العلم بجميع مواده ؛ الدينية والدنيوية …، ولذا لما حدد سادتنا العلماء الغش وعرفوه قالوا ما يمكن أن نفهم منه الصورة ، فقد قال الحافظ المناوي في كتاب (التوقيف علي مهمات التعاريف 252): الغش ما يخلط الرديء بالجيد . فكل شيء يوضع فيه من ليس منه بغرض التدليس فهو غش، وقال ابن حجر الهيثمي : الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئاً، لو اطلع مريد أخذها ما أخذ بذلك المقابل . وهنا يتحدث ابن حجر عن الغش الذي تعارف عليه الناس، وهو الغش في: التجارات، والبيع، والشراء . ولكن الكفوي انتقل انتقالة أكبر، ونظر نظرة أوسع فعرف الغش؛ فقال : الغش سواد القلب ، وعبوس الوجه ، ولذا يطلق الغش على الغل والحقد . وهنا يشير إلي أن العبد يتسلم قلبه أبيضا صافيا، ثم يسوده، ويغير صفته، وهو الغش، وكذلك في تغيير الوجه، وهو الصورة التي خلقها الله وعدلها في أحسن تقويم ثم يغيرها بالعبوس!!.
ولكن الغش الأشهر الذي يتضرر منه الناس تضررا مباشرا هو الغش التجاري، وهو الذي عناه الحافظ ابن حجر في كتاب:(الزواجر عن اقتراف الكبائر ) وقد جعله من الكبائر (الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع، أو مشتر فيها شيئًا، لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل. وهو الذي تكلم فيه العلماء بتفصيل فقال ابن تيمية في كتاب (الحسبة في الإسلام): والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كالذي مرَّ عليه النبي – صلى الله عليه وسلم- وأنكر عليه. ويدخل في الصناعات، مثل: الذين يصنعون المطعومات من: الخبز، والطبخ، والعدس، و الشواء، وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالنسَّاجين، والخيَّاطين، ونحوهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن: الغش، والخيانة، والكتمان.
وذكر صاحب ( تفسير المراغي) : ما أكثر ضروب الغشِّ والاحتيال، كما يقع من السماسرة من التَّلبيس والتَّدليس ، فيزيِّنون للناس السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهمونهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا.
وإن اتفق العلماء علي حرمة الغش، كما قال الإمام الغزالي في كتاب (إحياء علوم الدين للغزالي: 2/77): والغش حرام في البيوع والصنائع جميعًا، ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه، بل ينبغي أن يحسن الصنعة ، ويحكمها ثم يبيِّن عيبها إن كان فيها عيب، فبذلك يتخلص.
ومع حرمته المتفق عليها إلا أن من العلماء من عده من الكبائر، مثل: الحافظ الذهبي، فقد عدُّه كبيرة من كبائر الذنوب. (الكبائر:72)، وكذلك الحافظ ابن حجر الهيتمي الذي قال في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/400):… فذلك أعني ما حكي من صور ذلك الغش التي يفعلها: التجار، والعطَّارون، والبزَّازون، والصوَّاغون، والصَّيارفة، والحيَّاكون، وسائر أرباب البضائع، والمتاجر، والحرف، والصنائع، كله حرام شديد التحريم، موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش، خائن يأكل أموال الناس بالباطل، ويخادع الله ورسوله، وما يخادع إلا نفسه؛ لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه.
وفي (إحياء علوم الدين للغزالي: 2/77) كان بعضهم يقول: لا أشتري الويل من الله بحبة ؛ فكان إذا أخذ نقص نصف حبة، وإذا أعطى زاد حبة ، وكان يقول: ويل لمن باع بحبة جنة عرضها السموات والأرض، وما أخسر من باع طوبى بويل. فالغش وإن كان يسيرا لا يأبه به المرء ولا ينتبه له إلا أن فيه ضياع الاخرة ،وذهاب الجنة …
لذا حرص سادتنا الصالحون من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين الصالحين، وأهل التقوى من المسلمين، عن الابتعاد عن أي صورة من صور الغش، وفروا منه ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا، فقد كان سيدنا جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها، بصَّر عيوبها ثم خيَّره، وقال: إنْ شئت فخذ، وإنْ شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. (رواه ابن سعد في الطبقات – متمم الصحابة :803، والطبراني في الكبير :2/359 (2510)
وذكر صاحب (إحياء علوم الدين: 2/76) أن سيدنا واثلة بن الأسقع كان واقفًا ؛ فباع رجل ناقة له بثلاثمائة درهم، فغفل واثلة وقد ذهب الرجل بالناقة؛ فسعى وراءه وجعل يصيح به: يا هذا أشتريتها للحم أو للظهر؟ فقال: بل للظهر، فقال: إن بخفها نقبًا قد رأيته، وإنها لا تتابع السير، فعاد فردها، فنقصها البائع مائة درهم، وقال لواثلة: رحمك الله أفسدت عليَّ بيعي، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
وذكر أيضا أن سيدنا ابن سيرين باع شاة فقال للمشتري: أبرأ إليك من عيب فيها، أنها تقلِّب العلف برجلها.
وانظر لهذه الأخلاق العالية في التَّعاملاتُ مع النَّاسِ ،ومراعاة الله تعالي في خلقه، والأمانة الكبيرة في التِّجارةِ والأمورِ المادِّيَّةِ، وهو أعلي درجات مَحاسِنِ الأخلاقِ .
ولا يجوز بحال الغش لأي مسلم حتي ولو كان المغشوش غاشا ، فلا يقول قائل: إن فلانا يغش فلا حرمة في غشه ، فالفساد لا يداوي بفساد ، والعمل السيء لا يصلحه بعمل سيء، قال الراغب الأصفهاني في كتاب (الذريعة إلي مكارم الشريعة :211): لا يلتفتنَّ إلى من قال: إذا نصحت الرَّجل فلم يقبل منك فتقرَّب إلى الله بغشِّه، فذلك قول ألقاه الشَّيطان على لسانه، اللهمَّ إلَّا أن يريد بغشِّه السُّكوت عنه، فقد قيل: كثرة النَّصيحة تورث الظَّنَّة، ومعرفة النَّاصح من الغاشِّ صعبة جدًّا، فالإنسان – لمكره – يصعب الاطِّلاع على سرِّه، إذ هو قد يبدي خلاف ما يخفي، وليس كالحيوانات الَّتي يمكن الاطِّلاع على طبائعه. ولابد أن نتناصح فيما بيننا ؛ حتي ينصلح لنا الحال وتستقر الأحوال ، ويجب أن يحرص الجميع علي تنقية المجتمع من هذا الداء، وتنظيفه من هذا البلاء ، ومن عافاه الله تعالي من التلبس به لا يترك من يفعله ، بل عليه أن ينصحه بتركه، ويحاول ذلك بكل طريق ، وليخلص في النصح ، ولا يغشه فيه ، يقول سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما: لا يزال الرَّجل يزداد في صحَّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشَّه سلبه الله نصحه ورأيه.
وهذا يستوجب النصح أولا، والإخلاص فيه ثانيا ؛ حتى نصلح حال البلاد، ونريح العباد مما نعاني من بلاء و غلاء ومساوىء الأخلاق، ونعذر إلى الله تعالى، وننجوا من اللعنة قرينة السكوت على المنكر والتي عمت بني إسرائيل لذلك.