وكيل الأزهر يفتتح المؤتمر الدولي الرابع لكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة
الثلاثاء 14-03-2023 19:03
كتب:أ.د.محمود الصاوي
قال أ.د/ محمد الضويني، وكيل الأزهر، إن اختيار كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة لموضوع مؤتمرها الدولي الرابع اللغة الأم والانتماء الوطني اختيار موفق؛ فإننا ندرك أهمية اللغة وما يمكن أن تؤصله في العقول والأذهان من حب وانتماء للوطن، وخاصة في ظل هذه المحاولات المستميتة التي تسعى لتغريب شبابنا وتنحية لغتنا العربية وطمس هويتنا الإسلامية، وإن من فضل الله على الأمة أن ميزها بأعظم هوية، وأجل عقيدة، وأفصح لسان، والمحافظة على الهوية والعقيدة واللغة مطلب شرعي، وواجب ديني ووطني، ومسؤولية مجتمعية.
وأوضح وكيل الأزهر أنه إذا كانت اللغة العربية أحد أركان هوية الأمة؛ فإن المحافظة عليها من الدين، وبهذا قال العلماء، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: «ولا شك أن علم اللغة من الدين؛ لأنه من الفروض الكفايات، وبه تعرف معاني ألفاظ القرآن والسنة»، فهذه علاقة وثيقة بين اللغة والدين من جهة وبين اللغة والهوية من جهة أخرى، لا يمكن الفصل بينها بأي طريق؛ ومن ثم فإن الواجب على كل مسلم أن يزود عن اللغة بقلبه إيمانا بها، وبلسانه تعلما ونطقا بحروفها وبلاغتها، وأن يزود نفسه ما استطاع من الثقافة العربية والإسلامية، وأن يعلم أن تدينه وثقافته هما أساس هويته وانتمائه، ومن تمام الوعي أن يتفطن إلى الهجمات الشرسة التي تتعرض لها اللغة والدين والهوية، ويعمل على صدها.
وبيّن الدكتور الضويني أن إحدى أدوات العولمة تلك الهيمنة التي تعمل على إيجادها أجندات ممولة، ذات أغراض مشبوهة، وإن هذه الهيمنة اختراق واضح لخصوصيات الشعوب وثقافاتها، وأنه انطلاقا من الأمانة الملقاة على عاتق الأزهر في المحافظة على اللغة والهوية والدين فإن جامعة الأزهر وضعت اللغة العربية في مكانة متقدمة في أجندتها، فثمة برامج وخطط تنفذ لتعزيز مكانة لغتنا العربية في مختلف مجالات الحياة، وعلى وجه الخصوص التعليم والإعلام، نظرا لما يمكن أن يقوم به التعليم والإعلام من دور كبير في مجالات التربية والتنشئة والتثقيف، وهذا الاهتمام يؤكد الحرص الشديد والاهتمام الكبير الذي تبديه الدولة ومؤسساتها المعنية باللغة والهوية والدين، فالمحافظة على اللغة والهوية تقدم وحضارة، والمحافظة على اللغة والهوية عقيدة وإيمان وإحسان.
وأكد وكيل الأزهر أن اللغة تحمل هموم متكلميها، وتسهم في تنظيم سلوكهم وتفاعلهم وتعبيرهم عن مشاعرهم وتوحيد انتمائهم، فقيمتها ليست محصورة في طبيعتها فقط فهي أكبر من مجرد أداة للتواصل والبيان؛ بل في قدرتها على تجسيد وتصوير الثقافة اللسانية وفكرها، وكونها جامعة بين التعبير عن الإبداع ونقل المعرفة وإنتاجها، ولو علمت الشعوب أهمية اللغة ومركزيتها في هويتهم، ما تركوها تتفلت من بين أيديهم، ومن هنا كان أحد مجالات الصراعات المعاصرة «الصراع اللساني»، والكلام عن «الصراع اللساني» ليس من قبيل المبالغة أو التهويل، فاللغة هي أحد أهم مكونات الهوية، ومن أهم عوامل البناء في مختلف الحضارات والثقافات، ومن أول ما يعنى الغزاة المحتلون بمحوها، ومن ثم فإن الصراع صراع وجود وهوية.
وأضاف الدكتور الضويني أنه إذا تأملنا العالم من حولنا وجدنا بلادا واجهت الاحتلال بالتمسك بلغاتها، وجماعات أحيت لهجات ميتة، واعتزت بها، فصارت من أدوات قوتها، ولا أدري لماذا نجد في مقابل ذلك أناسا يقومون عن عمد أو عن جهل بقتل لغة حية؟!، وإني لم أقف هذا الموقف لأتكلم عن اللغة العربية وخصائصها، فهذا مما لا يخفى على حضراتكم، ولكنني أبدي أسفا وأملا، فأما الأسف فمما نراه من غياب الفصاحة العربية عن ألسنة كثير من أبنائنا الذين شغلوا عنها بغيرها من اللغات واللهجات، والذين يعدون الزج ببضع كلمات أعجمية في الحديث من علامات التحضر والرقي! وأرجو أن تتبنى كليات اللغة العربية وأقسامها بناء مقياس متقن يحدد درجة حضور اللغة ومفرداتها على ألسنة الباحثين وطلاب العلم، والشباب عموما؛ ونقوم بالواجب في ضوء هذه النتائج، وأما الأمل فإن أؤكد أن لغتنا العربية ما زالت بخير رغم ما تعانيه من محاولات يائسة لإضعافها، فاللغة تحمل داخلها سر بقائها، فهي لغة القرآن والدين.
وأوضح وكيل الأزهر أنه ربما يظن البعض أن مسألة زج بضع كلمات أعجمية في الحديث أصغر من الانشغال بها، ولكن المشكلة ليست في استعارة بعض ألفاظ من لغات أُخر، وإنما الأسى من أن يدور في فم المتكلم العربي لسان غيره، وأخشى أن يسكن دماغه عقل غيره! وإني لأرجو أن يشعر هذا المستعير بنشوة وتميز حين ينطق بالفصحى كما يشعر بنشوة كاذبة وتميز خادع حين يزج بين الحين والآخر في حديثه ببعض المفردات الأعجمية!، ثم إن الأمر لا ينتهي عند حد استعارة الألفاظ، فإن الألفاظ تحمل معها المعاني، وتنقل السلوك، ويخشى حين يعتاد المتكلم هذا أن يصبح نسخة شائهة، فلا هو اعتز بلغته فأجراها على لسانه، ولا هو أتقن بهذه الكلمات المستعارة لغة غيره، وحتى لا يظن أحد أني رافض أو معارض لتعلم اللغات فإني أرجو للأمة كلها أن تكون على دراية واطلاع وإحاطة بلغات العالم، لكن ليس على حساب لغتنا.
وأكد وكيل الأزهر أن اللغة فضلا عن كونها أحد مكونات الهوية فإنها مفتاح علوم التراث، ولقد أدرك علماؤنا وفقهاؤنا أنه لا غنى لعلم من علوم الشريعة عن اللغة العربية، وإذا استعجمت الألسنة صارت العلوم غريبة عن أهلها، وإذا فُرق بين العلوم وأهلها صاروا على موائد الأمم العلمية أضيافا إن أحسن إليهم؛ لذلك كان إكرام اللغة واللسان من إكرام الأمة، وضعف اللغة واللسان من ضعف الأمة، ويقول الرافعي رحمه الله تعالى : ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد: أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع»، والرافعي-رحمه الله تعالى- حين يكتب هذا الكلام إنما يكتبه عن معاصرة للاستعمار في بلاد المسلمين، ومعاينة ما يفعل الغزاة من طمس للغة من يستعمرهم وإحلال لغته مكانها.
وشدد وكيل الأزهر أن المحافظة على لغتنا وهويتنا مسؤولية دينية ووطنية ومجتمعية تقع على عاتق الجميع كل في مكان عمله وتخصصه، كل في حدود قدراته وإمكانيته؛ لنحافظ على ديننا وعقيدتنا وهويتنا، وما أحوجنا إلى اليقظة والمقاومة لكل محاولات تذويب الهوية، والعمل الجاد على تقوية مناعتنا الحضارية، من خلال الاحتفاء بلغة القرآن والعناية بها، فهي مفتاح هويتنا، والاعتزاز بها اعتزاز بالهوية، وخدمتها خدمة للدين والوطن، وإن من المفيد حقا وفي ضوء الواقع اللغوي أن نتأمل هذه التحديات التي تواجه اللغة العربية؛ لنعمل على معالجتها، وأول التحديات الداخلية ما نراه من هزيمة نفسية يعيشها بعض أبناء الأمة العربية حين نجد من ينادي بهجر اللغة الفصحى إلى اللهجة العامية بدعوى التسهيل والتيسير، أو من يقدم اللغات الأجنبية عن لغته الأم، أو من يرتضي اختراع خليط لغوي عجيب لا نسب له، وكأنهم يظنون بهذا أن التقدم لا يكون إلا بالانسلاخ من اللغة العربية، وكأن هذا اللسان هو السبب في أزمات الحياة المختلفة!.
واختتم وكيل الأزهر كلمته بأن من التحديات الخارجية المخيفة حقا ما تحمله اللغات الوافدة من عولمة خانقة تريد ابتلاع ثقافات الأمم والشعوب ولغاتها، تظهر ثمراتها المرة في سلوك أبنائنا وتفكيرهم، وهذا الواقع اللغوي يفرض على الأمة العربية أن توجد طرائق متنوعةلتجذيرِ اللغة العربية في نفوس أجيال المستقبل؛ لتبقى حية متوقدة في ألسنتهم وفي أفكارهم، بدءا من المدارس والمؤسسات التربوية، ومرورا بوسائل الإعلام المختلفة، ووسائل التواصل الاجتماعي المحدثة التي تأتي بالعجائب وغيرها من أدوات معاصرة.