ليلة النصف من شعبان : ( تصفية النفوس أولى من تضعيف النصوص ) : بقلم أ.د.عصمت رضوان أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية اللغة العربية للدراسات العليا والبحوث
الأحد 25-02-2024 22:30
ليلة النصف من شعبان هي ليلة الخامس عشر من شهر شعبان، وتبدأ مع مغرب يوم الرابع عشر من شعبان وتنتهي مع فجر يوم الخامس عشر منه . وهي الليلة التي من الله عزوجل فيها على حبيبه صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، تلك القبلة التي كان الحبيب يتمناها ويرضاها، ويقلب وجهه في السماء طالبا إياها ، وقد كان ذلك في العام الثاني من الهجرة على أرجح الآراء – بعد أن صلى المسلمين قرابة الستة عشر شهراً تقريباً تجاه المسجد الأقصى. وقد ورد في فضل هذه الليلة أحاديث كثيرة ، وأصح هذه الأحاديث ماورد أنه (إذا كان ليلة النصف من شعبان يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن ) ، والحديث بهذا اللفظ رواه أبو هريرة رضي الله عنه وهو في مسند البزار ، وورد بمعناه في عدة روايات تصل إلى تسع مع اختلاف يسير في المستثنين من المغفرة ، فتذكر الروايات أن الله تعالى لا يغفر في هذه الليلة لمشرك ، أو مشاحن لأخيه ، أو َقَاتِلِ نَفْسٍ ، أو قاطع رحم ، أو مسبلٍ ، أو عاقٍّ لوالديه ، أو مدمنِ خمر ، أويغفر للمؤمنين ويمهل الكافرين ويدع أهل الحقد لحقدهم حتى يدعوه. فالمغفرة في ليلة النصف من شعبان ثابتة بهذه الأحاديث التي هي في أقلِّ أحولها أحاديث حسنة لغيرها بمجوع طرقها، ومن العلماء من صرح أنها صحيحة لغيرها بمجموع طرقها لأنّ من طرقها حسنة بذاتها. وهناك أحاديث أخرى وردت في فضل هذه الليلة منها : ( إذا كانت لَيْلَةُُ النِّصْفِ من شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا ) ، وهو حديث حكموا عليه بالضعف ، لكن ذلك لا يتنافى مع قيام الليلة التماسا للمغفرة الثابتة بصحيح الأحاديث ، وصيام النهار الداخل في جملة شعبان الذى كان صلى الله عليه وسلم يصوم فيه مالا يصوم في غيره ، والمنتمي إلى الثلاثة أيام البيض المسنون صومها. ومما ورد أيضا حديث دعاء ليلة النصف من شعبان، ونصه : ( اللَّهُمَّ يَا ذَا الْمَنِّ وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، يَا ذَا الطَّوْلِ وَالإِنْعَامِ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَهْرَ اللَّاجِئينَ، وَجَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ، وَأَمَانَ الْخَائِفِينَ. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا أَوْ مَحْرُومًا أَوْ مَطْرُودًا أَوْ مُقَتَّرًا عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ، فَامْحُ اللَّهُمَّ بِفَضْلِكَ شَقَاوَتِي وَحِرْمَانِي وَطَرْدِي وَإِقْتَارَ رِزْقِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ سَعِيدًا مَرْزُوقًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرَاتِ، فَإِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ فِي كِتَابِكَ الْمُنَزَّلِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ الْمُرْسَلِ: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، إِلهِي بِالتَّجَلِّي الْأَعْظَمِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ الْمُكَرَّمِ، الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُبْرَمُ، أَنْ تَكْشِفَ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا نَعْلَمُ وَمَا لَا نَعْلَمُ وَمَا أَنْتَ بِهِ أَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ). وهو حديث حُكم عليه بالضعف أيضا ، وبعضهم نسبه إلى بعض الصحابة كعمر وابن مسعود رضي الله عنهما. والحقيقة أن هذا الدعاء سواء أكان حديثا أم دعاء مأثورا عن الصحابة أم غير ذلك فهو دعاء بالخير ، ولا شيء فيه ،ولدار الإفتاء المصرية فتوى صريحة في جواز الدعاء به. ثم إن نحو هذه الأحاديث واردة من عدة طرق يقوي بعضها بعضا على ضعفها ، كما أنه لا يترتب عليها حكم شرعي ، بل فضائل أعمال ، ونوافل خير. ولما سٌئل الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر : هل ليلة النصف من شعبان لها فضل؟ أجاب قائلا : ( قد ورد في فضلها أحاديث صحح بعض العلماء بعضاً منها وضعفها آخرون ، وإن أجازوا الأخذ بها في فضائل الأعمال ). ولعلماء السلف في فضل هذه الليلة أقوال كثيرة يضيق المقام عن سردها ، لكن يكفي للتدليل على ذلك أن بعضهم أفرد لها كتبا ودراسات مستقلة ، ومن ذلك : – “ليلة النصف من شعبان وفضلها” للحافظ ابن الدبيثي صاحب “الذيل على تاريخ بغداد” [ت: 637هـ]. – “الإيضاح والبيان لما جاء في ليلتَي الرغائب والنصف من شعبان” للإمام ابن حجر الهيتمي [ت: 974هـ]. – “التبيان في بيان ما في النصف من شعبان” للشيخ علي القاري [ت: 1014هـ]. – “فضائل ليلة النصف من شهر شعبان” للشيخ سالم السنهوري [ت: 1015هـ]. – “رسالة في فضل ليلة النصف من شهر شعبان” للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي [ت: 1121هـ]. _”حسن البيان في ليلة النصف من شعبان” للشيخ عبد الله بن الصديق الغماري [ت: 1413هـ]. – “ليلة النصف من شعبان في ميزان الإنصاف العلمي” للإمام الرائد الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم [ت: 1419ه]. وغير ذلك. فعلى المسلم ألا يهتم كثيرا بالحكم على الأحاديث الواردة في فضل هذه الليلة ، وألا يجعل من حكم بعض العلماء عليها بالضعف سببا للانصراف عن الدعاء والتماس الخير والبركة في هذه الليلة المباركة. وأهم ما ينبغي فعله فيها هو تصفية النفوس، وتخليص القلوب من الشحناء التي قد تمنع من نزول البركة ، وتحصيل المغفرة. وكأن هذه الليلة دعوة سلام ومحبة ، وداعي خير لتأليف القلوب ، ونبذ العداوة ، وطرح الفرقة ، ووأد الخلاف. نسأل الله تعالى أن يكتبنا فيها من المغفور لهم ذنبهم ، المرفوع لهم درجتهم ، إنه أعز مسئول وأكرم مأمول . بقلم د.عصمت رضوان أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية اللغة العربية للدراسات العليا والبحوث.